سورة فاطر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين يتلون كتابَ الله} أي: يُداومون على تلاوة القرآن {وأقاموا الصلاةَ} أتقنوها في أوقاتها، {وأنفقوا مما رزقناهم} فرضاً ونفلاً {سراً وعلانيةً} مسرّين النفل، ومعلنين الفرض، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر {إن}: قوله: {يرجُونَ تجارةً لن تبور} لن تكسد، وهو ثواب أعمالهم، يعني: يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد، وتنفق عند الله.
{ليُوَفّيَهم} متعلق ب {تبور}، أي: ليوفيَهم بإنفاقها عند الله {أُجُورهم} ثواب أعمالهم {ويَزيدَهُم من فضله} بتفسيح القبور، أو: تشفيعهم في أهلهم، ومَنْ أحسن إليهم، أو: تضعيف حسناتهم، أو: بتحقيق وعد لقائه.
أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، يقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلتك، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته. قال: فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين، لا تُقوّم لهما الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسِينَا هذا؟ فيقال لهما: بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ. ثم يقال له: اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ».
وذُكر في بعض الأخبار: أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة؛ الذين وُكلوا بحملة القرآن، فتأخذ بأيديهم، وتُوضع التيجان على رؤوسهم، والحُلل على أجسادهم، وتُقرب إليهم خيل من نور الجنة، عليها سُرُج المسك الأذفر، ألجمتُها من اللؤلؤ والياقوت، فيركبونها، وتطير بهم على الصراط، ويجوز في شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار، وينادي مناد: هؤلاء أحباء الله، الذين قرأوا كتاب الله، وعَمِلوا به، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. اهـ.
{إِنه غفور شكور} غفور لهفواتهم، شكور لأعمالهم، يُعطي الجزيل، على العمل القليل.
{والذي أوحينا إليك مِن الكتاب} أي: القرآن، و {مِن}: للتبيين، {هو الحقُّ} لا مرية فيه، {مصدّقاً لما بين يديه} لما تقدمه من الكتب، {إِن الله بعباده لخبير بصير} عالم بالظواهر والبواطن، فعلِمَك وأبصر أحوالك، ورآك أهلاً لأن يُوحي إليك هذا الكتاب المعجز، الذي هو عِيار على سائر الكتب.
الإشارة: كل ما ورد في فضل أهل القرآن، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به، وأخلص في قراءته، وحافظ على حدوده، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به، أو قرأه لغير الله، وعيد كبير، وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، بعد ذكر الحديثين في فضل حامل القرآن: وهذا مقيد بالعمل، أي: فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ، لا مما تلوتَ وخالفتَ بعملك؛ لأنه لو كان كذلك لانخرقت أصول الدين، ويؤدي إلى أن مَن حفظ سرد القرآن اليوم، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار، والصالحين الأبرار؛ فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ثم أورثنا الكتابَ} أي: أوحينا إليك القرآن، وأورثناه مَنْ بعدَك، أي: حكمنا بتوريثه {الذين اصطفينا من عبادنا} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، وتابعيهم، ومَن بعدهم إلى يوم الدين؛ لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية: الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. اهـ.
ثم رتَّبهم مراتب، فقال: {فمنهم ظالم لنفسه} بالتقصير في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، {ومنهم مقتصدٌ} وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، {ومنهم سابق بالخيرات} بأن جمع بين علمه والعمل به، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث، فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، والظالمُ يُحبس، حتى يظن أنه لن ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة» رواه أبو الدرداء. وقال ابن عباس رضي الله عنه: السابق، المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر النعمة غير الجاحد له، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس: الظالم: صاحب الكبائر، والمقتصد: صاحب الصغائر، والسابق: المجتنب لهما. وقال الحسن: الظالم: مَن رجحت سيئاته، والسابق: مَن رجحت حسناته، والمقتصد: مَن استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون. وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36]. وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده؛ لأنه قال: فمنهم، ومنهم، ومنهم، والكل راجع إلى قوله: {الذين اصطفينا من عبادنا} فهم أهلُ الإيمان، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأنّ المقتصد: قليلٌ بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه. وقيل: لأن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة. وقال سهل: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل. وقال أيضاً: السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق.
وقيل: الظالم: مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً، والمقتصد: المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال، والسابق: مَن أعرض عنها جملة.
وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب الآخرة، والسابق: طالب الحق لا يبغي به بدلاً. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة: الأقسام الثلاثة في جميع العباد؛ فالظالم لنفسه: الكافر، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} [الواقعة: 7] والتحقيق ما تقدّم.
وقوله: {بإِذْنِ الله} أي: بأمره، أو: بتوفيقه وهدايته {ذلك} أي: إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات {هو الفضلُ الكبيرُ} الذي لا أكبر منه، وهو {جناتُ عَدْنٍ يدخلونها} أي: الفرق الثلاث؛ لأنها ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء، إذا كانوا مقرين في النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول. {يُحلَّون فيها من أساورَ} جمع أَسورة، جمع سوار، {من ذَهَبٍ ولؤلؤاً} أي: من ذهب مرصَّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب، عطف على محل أساور، أي: يحلون أساور ولؤلؤاً. {ولباسُهُم فيها حريرٌ} لِمَا فيه من اللذة واليونة والزينة.
{وقالوا} بعد دخولهم الجنة: {الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنا الحزَن} خوف النار، أو: خوف الموت، أو: الخاتمة، أو: هَم الرزق. والتحقيق: أنه يعم جميع الأحزان والهموم، دنيوية أو أخروية، وعن ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة، في قبورهم، ولا في محشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن وجوههم، فيقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» {إِنَّ ربنا لغفور شكور} يغفر الجنايات، وإن كثرت، ويقبل الطاعات، ويشكر عاملها، وإن قلَّت. {الذي أحللنا دارَ المُقَامة} أي: دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها. يقال: أقمت إقامة ومقاماً ومقامة، {من فضلِهِ} أي: من عطائه وإفضاله، لا باستحقاق أعمالنا، {لا يمسنا فيها نَصَبٌ} تعب ومشقة {ولا يمسنا فيها لُغُوبٌ} إعياء وكَلَلَ من التعب، وفترة؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولاً التعب والمشقة، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل.
وأخرج البيهقي: أن رجلاً قال يا رسول الله: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم؟ فقال: «إن النوم شريك الموت- أو أخو الموت وإن أهل الجنة لا ينامون أو: ليس في الجنة موت» وفي رواية أخرى، قال: فما راحتهم؟ قال: «ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة»، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة.
قال الضحاك: إذا دخل أهل الجنة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب: طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية: ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة: رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة: وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة: ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة: إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة: أنهم هم الفائزون.
وفي الثامنة: صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة: رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة: سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن...} إلى: {لغوب}. اهـ.
الإشارة: قال الورتجبي: الاصطفائية تقدمت الوراثة؛ لمحبته ومشاهدته، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به، واصطفائيته إياهم، وهو محل القرب والانبساط، لذلك قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا} ثم قسمهم على ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال: فالظالم عندي والله أعلم الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه، فأي ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله: {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق، وكمال عشقه، ومحبة جلاله. اهـ.
قلت: وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين؛ فالظالم لنفسه: مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم: السالك المحض، والمقتصد: المجذوب المحض، والسابق: الجامع بينهما؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم: الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ كرّم الله وجهه: الظالم: الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد: الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق: الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري: ويقال الظالم: مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد: مَن استوت حالاته، والسابقُ: مَن زادت حسناته. أو: الظالمُ: مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ: مَن رغب في عقباه، والسابق: مَن آثر على الدارين مولاه. أو: الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد: مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق: مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو: الظالم: مَن طلبه، والمقتصد: مَن وجده، والسابق: مَن بقي معه. أو: الظالم: مَن ترك الزلة، والمقتصد: مَن ترك الغفلة، والسابق: مَن ترك العلاقة.
أو: الظالم: مَن جاد بنفسه، والمقتصد: مَن لم يبخل بقلبه، والسابق: مَن جاد بروحه. أو: الظالم: مَن له علم اليقين، والمقتصد: مَن له عين اليقين، والسابق: مَن له حق اليقين. أو: الظالم: بترك الحرام، والمقتصد: بترك الشُّبهة، والسابق: بترك الفضل في الجملة.
أو: الظالم: صاحب سخاء، والمقتصد: صاحب جود، والسابق: صاحب إيثار. أو: الظالم: صاحب رجاء، والمقتصد: صاحب بسط، والسابق: صاحب أُنس. أو: الظالم: صاحب خوف، والمقتصد: صاحب خشية، والسابق: صاحب هيبة. أو: الظالم له المغفرة، والمقتصد: له الرحمة، والسابق: له القُربة، أو: الظالم: طالب النجاة، والمقتصد: طالب الدرجات، والسابق: طالب المناجاة. أو: الظالم: أمن من العقوبة، والمقتصد: طالب المثوبة، والسابق: متحقق بالقربة. أو: الظالم: صاحب التوكُّل، والمقتصد: صاحب التسليم، والسابق: صاحب التفويض، أو: الظالم: صاحب تواجد، والمقتصد: صاحب وجد، والسابق: صاحب وجود غير محجوب عنه البتة. أو: الظالم: مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق: مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو: الظالم: صاحب المحاضرة، والمقتصد: صاحب المكاشفة، والسابق: صاحب المشاهدة. وبعضهم قال: يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد: في كل يوم مرة، والسابق: غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. ه باختصار.
والتحقيق: أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة:
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ *** أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ
وقال أيضاً:
فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ *** كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ
إِنَّ ربنا لغفور بتغطية العيوب، شكور بكشف الغيوب، الذي أحلّنا دار المُقامة، هي التمكين في الحضرة، بفضله، لا بحول منا ولا قوة، لا يمسنا فيها نصب. قال القشيري: إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْعِ مسافةٍ، بل هم في غُرَفِهم يشاهدون مولاهم، ويلقون فيها تحيةَ وسلاماً، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مُقلةٍ من جهةٍ، كما هم يَرَوْنه بلا كيفية. اهـ.


قلت: {فيموتوا}: جواب النفي.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذين كفروا لهم نارُ جهنَّمَ} يُخلدون فيها، {لا يُقْضَى عليهم فيموتوا} أي: لا يحكم بموت ثان فيستريحوا، {ولا يُخفف عنهم من عذابها} ساعة، بل كلما خبت زِيد إسعارها، وهذا مثل قوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75]، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان، وأنه كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعُه، فقال عليه السلام: «لا، فإنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ثم قال عياض: ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي: أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار: أنهم لا يتخلصون بها من النار، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل: وعلى ما قاله عياض، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له، مختص به. اهـ. ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم. ومثل ما قاله في أبي طالب، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة، كما في الصحيح.
والحاصل: أن التخفيف يقع في بعض الكفار، لبره في الدنيا، تفضلاً منه تعالى، لا في مقابلة عملهم؛ لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
{كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع، {نجزي كلَّ كفور} مبالغ في الكفران {وهم يصطرخون فيها}: يستغيثون، فهو يفتعلون، من: الصراخ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون: {ربَّنا أخْرِجنا} منها، ورُدنا إلى الدنيا {نعملْ صالحاً غير الذي كنا نعملُ} فنؤمن بعد الكفر، ونُطيع بعد المعصية. فيُجابون بعد قدر عمر الدنيا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يتذكَّرُ فيه مَن تَذَكَّرَ} أي: أَوَلَم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه، والتدبُّر في آياته، وإن قصُر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وقيل: هو ثماني عشرة سنة. وقيل: ما بين العشرين إلى الستين، وقيل: أربعون. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب، مسح الشيطان على وجهه. وقال: وجه لا يُفلح أبداً، وقيل: ستون. وعنه صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة»، وفي البخاري عنه عليه السلام: «أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة».
{وجاءكم النذيرُ} أي: الرسول عليه السلام، أو: الكتاب، وقيل: الشيخوخة، وزوال السن، وقيل: الشيب.
قال ابن عزيز: وليس هذا شيء؛ لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. اهـ. ولقوله تعالى بعدُ: {فلما جاءهم نذير} فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى: {أو لم نعمركم} لأن لفظه استخبار، كأنه قيل: قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة: احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم. قال تعالى: {فذُوقوا} العذاب {فما للظالمين من نصيرٍ} يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: الذين كفروا بطريق الخصوصية، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح، فبقوا مع نفوسهم، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية، لا يُقضى عليهم فيموتوا، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ، ونسج الأكنة على القلوب، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها، بلسان حالهم، قائلين: ربنا أخرجنا، ورُدّنا إلى دار الفناء، نعمل صالحاً غير الذي كنا نعملُ، حتى ندخل، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم: أَوَلَم نُعمركم ما يتذكر فيه مَن تذكر، وجاءكم النذير، مَن ينذركم وبال القطيعة، ويُعرفكم بطريق الحضرة، فأنكرتموه، فذُوقوا وبال القطيعة، فما للظالمين من نصير.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8